فصل: جزيرة كبيرة ببحر النيل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


وفي هذه السنة - أعني سنة ثمانين وستمائة - تربت

 جزيرة كبيرة ببحر النيل

تجاه قرية بولاق واللوق وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المكس وساحل باب البحر والرملة وبين جزيرة الفيل وهو المار تحت منية السيرج وانسد هذا البحر ونشف بالكلية واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشي ولم يعهد فيما تقدم وحصل لأهل القاهرة مشقة من نقل الماء الحلو لبعد البحر فأراد السلطان حفره فنهوه عن ذلك وقالوا له‏:‏ هذا ينشف إلى الأبد فتأسف السلطان وغيره على ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وكذا وقع ونحن الآن لا نعرف أين كان جريان البحر المذكور إلا بالحدس لإنشاء الأملاك والبساتين والعمائر والحارات في محل مجرى البحر المذكور فسبحان القادر على كل شيء‏.‏

ثم في أول سنة إحدى وثمانين وستمائة ورد الخبر على السلطان أنه تسلطن في مملكة التتار مكان أبغا بن هولاكو أخوه لأبيه أحمد بن هولاكو وهو مسلم حسن الإسلام وعمره يومئذ مقدار ثلاثين سنة وأنه وصلت أوامره إلى بغداد تتضمن إظهار شعائر الإسلام وإقامة مناره وأنه أعلى كلمة الدين وبنى الجوامع والمساجد والأوقاف ورتب القضاة وأنه انقاد إلى الأحكام الشرعية وأنه ألزم أهل الفقة بلبس الغيار وضرب الجزية عليهم ويقال إن إسلامه كان في حياة والده هولاكو فسر السلطان بذلك سرورًا عظيمًا‏.‏

وبعد مدة قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسري وعلى علاء الدين كشتغدي الشمسي واعتقلهما بقلعة الجبل وذلك في يوم الأحد مستهل صفر من السنة‏.‏

واستمر السلطان على ذلك إلى يوم الأربعاء ثاني عشرين شعبان طافوا بكسوة البيت العتيق التي عملت برسم الكعبة عظمها الله تعالى بمصر والقاهرة على العادة ولعبت مماليك السلطان الملك المنصور قلاوون أمام الكسوة بالرماح والسلاح‏.‏

قلت‏:‏ وأظن هذا هو أول ابتداء سوق المحمل المعهود الآن فإننا لم نقف فيما مضى على شيء من ذلك مع كثرة التفاتنا إلى هذا المعنى ولهذا غلب على ظني من يوم ذاك بدأ السوق المعهود الآن ولم يكن إذ ذاك على هيئة يومنا هذا وإنما ازداد بحسب اجتهاد المعلمين كما وقع ذلك في غيره من الفنون والملاعيب والعلوم فإن مبدأ كل أمر ليس كنهايته وإنما شرع كل معلم في اقتراح نوع من أنواع السوق إلى أن انتهى إلى ما نحن عليه الآن ولا سبيل إلى غير ذلك‏.‏

يعرف ما قلته من له إلمام بالفنون والعلوم إذا كان له فوق وعقل‏.‏

وعلى هذه الصيغة أيضًا اللعب بالرمح فإن مماليك قلاوون هم أيضًا أحدثوه وإن كانت الأوائل كانت تلعبه فليس كان لعبهم على هذه الطريقة وأنا أضرب لك مثلًا لمصداق قولي في هذا الفن وهو أن مماليك الملك الظاهر برقوق كان أكثرهم قد حاز من هذا الفن طرفًا جيدًا وصار فيهم من يضرب بلعبه المثل وهم جماعة كثيرة يطول الشرح في ذكرهم ومع هذا أحدث معلمو زماننا أشياء لم يعهدوها أولئك من تغيير القبض على الرمح في مواطن كثيرة في اللعب حتى إن لعب زماننا هذا يكاد أنه يخالف لعب أولئك في غالب قبوضاتهم وحركاتهم‏.‏

وهذا أكبر شاهد لي على ما نقلته من أمر المحمل وتعداد فنونه وكثرة ميادينه واختلاف أسمائها لتغيير لعب الرمح في هذه المدة اليسيرة من صفة إلى أخرى فكيف وهذا الذي ذكرناه من ابتداء السوق من سنة إحدى وثمانين وستمائة‏!‏ فمن باب أولى تكون زيادات أنواع سوق المحمل أحق بهذا لطول السنين ولكثرة من باشره من المعلمين الأستاذين ولتغير الدول ولمحبة الملوك وتعظيمهم لهذا الفن ولإنفاق سوق من كان حاذقًا في هذا الفن‏.‏

وقد صنفت أنا ثمانية ميادين كل واحد يخالف الآخر في نوعه لم أسبق إلى مثلها قديمًا ولا حديثًا لكنني لم أظهرها لكساد هذا الفن وغيره في زماننا هذا ولعدم الإنصاف فيه وكثرة حساده ممن يدعي فيه المعرفة وهو أجنبي عنها لا يعرف اسم نوع من أندابه على جليته بل أيها المدعي سليمى كفاحًا لست منها ولا قلامة ظفر إنما أنت من سليمى كواو ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو وشاهدي أيضًا قول العلامة جار الله محمود الزمخشري وأجاد رحمه الله تعالى‏:‏ الطويل وأخرني دهري وقدم معشرًا على أنهم لا يعلمون وأعلم ومذ أفلح الجهال أيقنت أنني أنا الميم والأيام أفلح اعلم قلت‏:‏ وتفسير الأفلح هو مشقوق الشفة العليا والأعلم مشقوق الشفة السفلى وفائدة ذلك أن مشقوق الشفتين العليا والسفلى لا يقدر أن يتلفظ بالميم ولا ينطق بها‏.‏

فانظر إلى حسن هذا التخيل والغوص على المعاني‏.‏

وما أحسن قول الإمام العلامة القاضي الفاضل عبد الرحيم وزير السلطان صلاح الدين وهو‏:‏ مجزوء الكامل ما ضر جهل الجاهل - - ين ولا انتفعت أنا بحذقي وزيادة في الحذق فه - - ي زيادة في نقص رزقي وقول الشريف الرضي في المعنى‏:‏ البسيط ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ليس الحظوظ على الأقدار والمهن وفي المعنى‏:‏ البسيط كم فاضل فاضل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الألباب حائرة وصير العالم النحرير زنديقا قلت‏:‏ ويعجبني المقالة السادسة عشرة من كتاب أطباق الذهب للعلامة شرف الدين عبد المؤمن الأصفهاني المعروف بشوروة وهي‏:‏ طبع الكريم لا يحتمل حمة الضيم وهواء الصيف لا يقبل غمة الغيم والنبيل يرضى النبال والحسام ويأبى أن يسام ولأن يقتل صبرًا ويودع قبرًا أحب إليه من أن يصيبه نشاب الجفاء من جفير الأكفاء يهوى المنية ولا يرضى الدنية يستقبل السيف ولا يقبل الحيف إن سيم أخذته الهزة وإن ضيم أخذته العزة إن عاشرته سال عذبًا وإن عاسرته سل عضبًا إن شاربته تخمر وإن حاربته تنفر يرى العز مغنمًا والذل مغرمًا وكان كأنف الليث لا يشتم مرغمًا‏.‏

فيا هذا كن في الدنيا حمي الأنف منيع الجناب أبي النفس طرير الناب ولا تصحب الدنيا صحبة بعال ولا تنظر إلى أبنائها إلا من عال ولا تخفض جناحك لبنيها ولاتضعضع ركنك لبانيها ولا تمدن عينيك إلى زخارفها ولا تبسط يدك إلى مخارفها وكن من الأكياس واتل على قلت‏:‏ وقد خرجنا عن المقصود غير أننا وجدنا المقال فقلنا‏.‏

ولنعد إلى ما نحن فيه من ترجمة الملك المنصور قلاوون‏.‏

ودام السلطان الملك المنصور بديار مصر إلى سنة ثلاث وثمانين وستمائة وتوفي صاحب حماة الملك المنصور محمد الأيوبي فأنعم السلطان الملك المنصور على ولده بسلطنة حماة وولاه مكان والده المنصور‏.‏

ثم تجهز السلطان في السنة المذكورة وخرج من الديار المصرية بعسكره متوجهًا إلى الشام في أواخر جمادى الأولى وسار حتى دخل دمشق في ثاني عشر جمادى الآخرة وأقام بدمشق إلى أن عاد إلى جهة الديار المصرية في الثلث الأخير من ليلة السبت ثالث عشرين شعبان وسار حتى دخل مصر في النصف من شهر رمضان وأقام بديار مصر إلى أول سنة أربع وثمانين وستمائة فتجهز وخرج منها بعساكره إلى جهة الشام وسافر حتى دخل دمشق يوم السبت ثاني عشرين المحرم من السنة المذكورة وعرض العسكر الشامي عدة أيام وخرجوا جميعًا قاصدين المرقب في يوم الاثنين ثاني صفر‏.‏

وكان قد بقي في يد سنقر الأشقر قطعة من البلاد منها‏:‏ بلاطنس وصهيون وبرزيه وغير ذلك وكان عمل السلطان في الباطن انتزاع ما يمكن انتزاعه من يد سنقر الأشقر المذكور وإفساد نوابه‏.‏

فاتفق الحال بين نواب السلطان وبين نواب سنقر الأشقر على تسليم بلاطنس فسلمت في أول صفر‏.‏

ووافى السلطان البشرى بتسليمها وهو على عيون القصب في توجهه إلى حصار المرقب فسر بذلك واستبشر بنيل مقصوده من المرقب‏.‏

وكان في نفس السلطان من أهل المرقب لما فعلوا مع عسكره ما فعلوا في السنين الماضية فنازل السلطان حصن المرقب في يوم الأربعاء عاشر صفر وشرع العسكر في عمل الستائر والمجانيق‏.‏

فلما انتهت الستائر التي للمجانيق حملتها المقاتلة لباب الحصن فسقطت الستارة إلى بركة كبيرة كان عليها جماعة من أصحاب الأمير علم الدين سنجر الدويداري منهم شمس الدين سنقر أستاداره وعدة من مماليكه فاستشهدوا جميعهم رحمهم الله تعالى‏.‏

ثم في يوم الأحد رابع عشره حضر رسل الفرنج من عند ملكهم الإسبتار وسألوا السلطان الصلح والأمان لأهل المرقب على نفوسهم وأموالهم ويسلمون الحصن المذكور فلم يجبهم السلطان إلى ذلك وكمل نصب المجانيق ورمى بها وشعث الحصن وهدم معظم أبراجه واستمر الحال إلى سادس عشر شهر ربيع الأول زحف السلطان على الحصن فأذعن من فيه بالتسليم وحصلت المراسلة في معنى ذلك‏.‏

فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الأول المذكور سلم ورفعت عليه الأعلام الإسلامية ونزل من به بالأمان على أرواحهم فركبوا وجهز معهم من أوصلهم إلى وبالقرب من هذا الحصن مرقية وهي بلدة صغيرة على البحر وكان صاحبها قد بنى في البحر برجًا عظيمًا لا يرام ولا تصله النشاب ولا حجر المنجنيق وحصنه واتفق حضور رسل صاحب طرابلس إلى السلطان بطلب مراضيه فاقترح عليه خراب هذا البرج وإحضار من كان فيه أسيرًا من الجبيليين الذين كانوا مع صاحب جبيل فأحضر من بقي منهم في قيد الحياة واعتذر عن هدم البرج بأنه ليس له ولا هو تحت حكمه فلم يقبل السلطان اعتذاره وصمم على طلبه منه فقيل‏:‏ إنه اشتراه من صاحبه بعدة قرى وذهب كثير ودفعه إلى السلطان فأمر بهدمه فهدم واستراح الناس منه‏.‏

وحصل الاستيلاء في هذه الغزوة على المرقب وأعماله ومرقية‏.‏

والمرقب هو من الحصون المشهورة بالمنعة والحصانة وهو كبير جدًا ولم يفتحه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فيما فتح فأبقاه السلطان الملك المنصور بعد أن أشير عليه بهدمه ورمم شعثه واستناب فيه بعض أمرائه ورتب أحواله‏.‏

وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار‏.‏

ولما كان السلطان الملك المنصور على حصار المرقب جاءته البشرى بولادة ولده الملك الناصر محمد بن قلاوون فمولد الملك الناصر محمد هذه السنة فيحفظ إلى ما يأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى فإنه أعظم ملوك الترك بلا مدافعة‏.‏

ولما فتح السلطان الملك المنصور المرقب عملت الشعراء في ذلك عدة قصائد فمن ذلك ما قاله العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود وهي قصيدة طنانة أولها‏:‏ البسيط

الله أكبر هذا النصر والظفر ** هذا هو الفتح لا ما تزعم السير

هذا الذي كانت الآمال إن طمحت ** إلى الكواكب ترجوه وتنتظر

فانهض وسر واملك الدنيا فقد نحلت ** شوقًا منابرها وارتاحت السرر

كم رام قبلك هذا الحصن من ملك ** فطال عنه وما في باعه قصر

وكيف تمنحه الأيام مملكة ** كانت لدولتك الغراء تدخر

وكيف يسمو إليها من تأخر ** عن إسعاده منجداك القمر والقدر

غر العدا منك حلم تحته همم ** لأشقر البرق من تحجيلها غرر

لها وإن أشبهت لطف النسيم سرى ** معنى العواصف لا تبقي ولا تذر

أوردتها المرقب العالي وليس سوى ** ماء المجرة في أرجائها نهر

كأنه وكأن الجو يكنفه ** وهم تمثله في طيها الفكر

يختال كالغادة العذراء قد نظمت ** منه مكان اللآلي الأنجم الزهر

ويومض البرق يهفو نحوه ** ليرى أدنى رباه ويأتي وهو معتذر

وليس يروى بماء السحب مصعدة ** إليه من فيه إلا وهو منحدر

ومنها‏:‏

وأضرمت حوله نار لها لهب ** من السيوف ومن نبل الوغى شرر

ومنها‏:‏

كأنها ومجانيق الفرنج لها ** فرائس الأسد في أظفارها الظفـــر

وكم شكا الحصن ما يلقى فما ** اكترثت يا قلبها أحديد أنت أم حجر

وللنقوب دبيب في مفاصله ** تثير سقمًا ولا يبدو له أثر

أضحى به مثل صب لا تبين به ** نار الهوى وهي في الأحشاء تستعر

ومنها‏:‏

ركبت في جندك الأولى إليه ضحًا ** والنصر يتلوك منه جندك الأخر

قد زال تجلى قواه عن قواعده وخر ** أعلاه نحـــو الأرض يبتدر

وساخ وانكشفت أقباؤه وبدا لديك ** من مضمرات النصر ما ستروا

إن لم يوف الورى بالشكر ما فتحت ** يداك فالله والأملاك قد شكروا

ثم سار الملك المنصور قلاوون من المرقب إلى دمشق وأقام بها أيامًا ثم خرج منها عائدًا إلى نحو الديار المصرية في بكرة الاثنين ثاني عشر جمادى الأولى فدخل الديار المصرية في أوائل شهر رجب‏.‏

ولما دخل القاهرة وأقام بها أخذ في عمل أخذ الكرك من الملك المسعود نجم الدين خضر ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري حتى أخذت وورد عليه الخبر بأخذها في ليلة الجمعة سابع صفر سنة خمس وثمانين وستمائة ودقت البشائر بالديار المصرية ثلاثة أيام‏.‏

ثم في سنة ست وثمانين وستمائة جهز السلطان طائفة من العسكر بالديار المصرية صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي إلى الشام لحصار صهيون وبرزيه وانتزاعهما من يد سنقر الأشقر فسار حسام الدين المذكور بمن معه حتى وصل دمشق في أثناء المحرم واستصحب معه الأمير حسام الدين لاجين نائب الشام وتوجه الجميع إلى صهيون بالمجانيق فوصلوها وشرعوا في حصارها وكان سنقر الأشقر قد استعد لهم وجمع إلى القلعة خلقًا كثيرًا فحاصروه أيامًا ثم بعد ذلك توجه الأمير حسام الدين إلى برزيه وحصرها واستولى عليها وهي مما يضرب المثل بحصانتها‏.‏

ولما فتحها وجد فيها خيولا لسنقر الأشقر‏.‏

ولما فتحت برزيه لانت عريكة سنقر الأشقر وأجاب إلى تسليم صهيون على شروط اشترطها فأجابه طرنطاي إليها وحلف له بما وثق به من الأيمان ونزل من قلعة صهيون بعد حصرها شهرًا واحدًا وأعين على نقل أثقاله بجمال كثيرة وحضر بنفسه وأولاده وأثقاله وأتباعه إلى دمشق‏.‏

ثم توجه إلى الديار المصرية صحبة طرنطاي المذكور ووفى له بجميع ما حلف عليه ولم يزل يذب عنه أيام حياته أشد ذب‏.‏

وأعطى السلطان لسنقر الأشقر بالديار المصرية خبز مائة فارس وبقي وافر الحرمة إلى آخر أيام الملك المنصور قلاوون‏.‏

وانتظمت صهيون وبرزيه في سلك الممالك المنصورية‏.‏

ثم خرج الملك المنصور من الديار المصرية قاصدًا الشام في يوم سابع عشرين شهر رجب سنة ست وثمانين وسار حتى وصل غزة أقام بتل العجول أيامًا إلى شوال ثم رجع إلى الديار المصرية فدخلها يوم الاثنين ثالث عشرين شوال ولم يعلم أحد ما كان غرضه في هذه السفرة‏.‏

وفي شوال هذا سلطن الملك المنصور ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليلًا وجعله مكان أخيه الملك الصالح علاء الدين علي بعد موته ودقت البشائر لذلك سبعة أيام بالديار المصرية وغيرها وحلف الناس له والعساكر وخطب له بولاية العهد‏.‏

ثم في سنة ثمان وثمانين وستمائة فتحت طرابلس وهو أن صاحب طرابلس كان وقع بينه وبين سير تلميه الفرنجي وكان من أصحاب صاحب الحصن الذي أخربه صاحب طرابلس رضاء للملك المنصور قلاوون حسب ما تقدم ذكره‏.‏

فحصلت بينه وبين صاحب طرابلس وحشة بسبب ذلك واتفق موت صاحب الحصن وسأل سير تلميه من السلطان الملك المنصور المساعدة وأن يتقدم للأمير بلبان الطباخي السلحدار أن يساعده على تملك طرابلس على أن تكون مناصفة وبذل في ذلك بذولًا كثيرة فسوعد إلى أن تم له مراده ورأى أن الذي بذله للسلطان لا يوافقه الفرنج عليه فشرع في باب التسويف والمغالطة ومدافعه الأوقات فلما علم السلطان باطن أمره عزم على قتاله قبل استحكام أمره فتجهز وخرج من الديار المصرية بعساكره لحصار طرابلس وسار حتى وصل دمشق وأقام بها ثم تهيأ وخرج منها ونازل طرابلس في مستهل شهر ربيع الأول ونصب عليها المجانيق وضايقها مضايقة شديدة إلى أن ملكها بالسيف في الرابعة من نهار الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر وشمل القتل والأسر لسائر من كان بها وغرق منهم في الماء جماعة كثيرة ونهب من الأموال والذخائر والمتاجر وغير ذلك ما لا يوصف ثم أحرقت وخرب سورها وكان من أعظم الأسوار وأمنعها‏.‏

ثم تسلم حصن أنفة وكان أيضًا لصاحب طرابلس فأمر السلطان بتخريبه ثم تسلم السلطان البترون وجميع ما هناك من الحصون‏.‏

وكان لطرابلس مدة طويلة بأيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى الآن‏.‏

قلت‏:‏ وكان فتح طرابلس الأول في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وتنقلت في أيدي الملوك وعظمت في زمن بني عمار قضاة طرابلس وحكامها‏.‏

فلما كان في آخر المائة الخامسة ظهرت طوائف الفرنج في الشام واستولوا على البلاد فامتنعت عليهم طرابلس مدة حتى ملكوها بعد أمور في سنة ثلاث وخمسمائة واستمرت في أيديهم إلى أن فتحها الملك المنصور قلاوون في هذه السنة‏.‏

وقال شرف الدين محمد بن موسى المقدسي الكاتب في السيرة المنصورية‏:‏ إن طرابلس كانت عبارة عن ثلاثة حصون مجتمعة باللسان الرومي وكان فتحها على يد سفيان بن مجيب الأزدي بعثه لحصارها معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه انتهى كلام شرف الدين باختصار‏.‏

قلت‏:‏ وأما طرابلس القديمة كانت من أحسن المدن وأطيبها ثم بعد ذلك اتخذوا مكانًا على ميل من البلدة وبنوه مدينة صغيرة بلا سور فجاء مكانًا رديء الهوى والمزاج من الوخم‏.‏

انتهى‏.‏

ولما فتحت طرابلس كتبت البشائر إلى الآفاق بهذا النصر العظيم ودقت البشائر والتهاني وزينت المدن وعملت القلاع في الشوارع وسر الناس بهذا النصر غاية السرور‏.‏

وأنشأ في هذا المعنى القاضي تاج الدين ابن الأثير كتابًا إلى صاحب اليمن بأمر الملك المنصور يعرفه بهذا الفتح العظيم وبالبشارة به‏.‏

وأوله‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أعز الله نصر المقام العالي السلطاني الملكي المظفري الشمسي‏.‏

ثم استطرد وحكى أمر الفتح وغيره إلى أن قال فأحسن فيما قال‏:‏ وكانت الخلفاء والملوك في ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه مكب على مجلس أنسه يرى السلامة غنيمة وإذا عن له وصف الحرب لم يسأل منها إلا عن طرق الهزيمة قد بلغ أمله من الرتبة وقنع أمن ملكه كما يقال بالسكة والخطبة أموال تنهب وممالك تذهب لا يبالون بما سلبوا وهم كما قيل‏:‏ البسيط إن قاتلوا قتلوا أو طاردوا طردوا أو حاربوا حربوا أو غالبوا غلبوا إلى أن أوجد الله من نصر دينه وأذل الكفر وشياطينه‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ والكتاب هذا خلاصته والذي أعجبني منه‏.‏

وعمل الشعراء في هذا الفتح عدة قصائد فمن ذلك ما قاله العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود كاتب الدرج المقدم ذكره يمدح الملك المنصور قلاوون ويذكر فتحه طرابلس والقصيدة أولها‏:‏ الطويل علينا لمن أولاك نعمته الشكر لأنك للإسلام يا سيفه ذخر ولله في إعلاء ملكك في الورى مراد وفي التأييد يوم الوغى سر ألا هكذا يا وارث الملك فليكن جهاد العدا لا ما توالى به الدهر ومنها‏:‏ نهضت إلى عليا طرابلس التي أقل عناها أن خندقها البحر والقصيدة طويلة كلها على هذا المنوال أضربت عنها خوف الإطالة‏.‏

انتهى‏.‏

ثم عاد الملك المنصور إلى الديار المصرية في جمادى الآخرة من السنة واستمر بالقاهرة إلى أول سنة تسع وثمانين وستمائة جهز الأمير حسام الدين طرنطاي كافل الممالك الشامية إلى بلاد الصعيد ومعه عسكر جيد من الأمراء والجند فسكن تلك النواحي وأباد المفسدين وأخذ خلقًا عظيمًا من أعيانهم رهائن وأخذ جميع أسلحتهم وخيولهم وكان معظم سلاحهم السيوف والحجف والرماح وأحضروا إلى السلطان من ذلك عدة أحمال ففرق السلطان من الخيول والسلاح فيمن أراد من الأمراء والجند وأودع الرهائن الحبوس‏.‏

وفي هذه السنة أيضًا عاد الأمير عز الدين أيبك الأفرم من غزو بلاد السودان بمغانم كثيرة ورقيق كثير من النساء والرجال وفيل صغير‏.‏

ثم في هذه السنة أيضًا رسم السلطان ألا يستخدم أحد من الأمراء وغيرهم في دواوينهم أحدًا وفي هذه السنة عزم السلطان الملك المنصور على الحج لبلعه خبر فرنج عكا ففتر عزمه وتهيأ للخروج إلى البلاد الشامية ورأى أن يقدم غزوهم والانتقام على الحج وأخذ في تجهيز العساكر والبعوث وضرب دهليزه خارج القاهرة وباب الدهليز إلى جهة عكا‏.‏

وخرج من القاهرة إلى مخيمه وهو متوعك لأيام خلت من شوال ولا زال متمرضًا بمخيمه عند مسجد التبن خارج القاهرة إلى أن توفي به في يوم السبت سادس ذي القعدة من سنة تسع وثمانين وستمائة وحمل إلى القلعة ليلة الأحد‏.‏

وتسلطن من بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل الذي كان عهد له بالسلطنة قبل تاريخه حسب ما ذكرناه‏.‏

وكثر أسف الناس عليه‏.‏

قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي في تاريخ الإسلام بعدما سماه ولقبه قال‏:‏ اشتري بألف دينار ولهذا كان في حال إمرته يسمى بالألفي وكان من أحسن الناس صورة في صباه وأبهاهم وأهيبهم في رجوليته كان تام الشكل مستدير اللحية قد وخطه الشيب على وجهه هيبة الملك وعلى أكتافه حشمة السلطنة وعليه سكينة ووقار رأيته مرات آخرها منصرفه من فتح طرابلس‏.‏

وكان من أبناء الستين‏.‏

ثم قال‏:‏ وحدثني أبي أنه كان معجم اللسان لا يكاد يفصح بالعربية وذلك لأنه أتي به من بلاد الترك وهو كبير‏.‏

ثم قال بعد كلام آخر‏:‏ وعمل بالقاهرة ببين القصرين تربة عظيمة ومدرسة كبيرة قال‏:‏ وبيمارستانًا للمرضى‏.‏

قلت‏:‏ ومن عمارته البيمارستان المذكور وعظم أوقافه تعرف همته ونذكر عمارة البيمارستان إن شاء الله تعالى بعد ذلك‏.‏

انتهى‏.‏